فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ} أي: يا محمد {مِنْ أَنْبَائِهَا} أي: من أخبارها، {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي: بالحجج على صدقهم فيما أخبروهم به، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] وقال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101، 102].
وقوله تعالى: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} الباء سببية، أي: فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم. حكاه ابن عطية، رحمه الله، وهو متجه حسن، كقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110، 111]؛ ولهذا قال هنا: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ} أي: لأكثر الأمم الماضية {مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} أي: ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال. والعهد الذي أخذه عليهم هو ما جبلهم عليه وفطرهم عليه، وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، فأقروا بذلك، وشهدوا على أنفسهم به، فخالفوه وتركوه وراء ظهورهم، وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة، لا من عقل ولا شرع، وفي الفطر السليمة خلاف ذلك، وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن ذلك، كما جاء في صحيح مسلم يقول الله تعالى: «إني خلقت عبادي حُنَفَاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم». وفي الصحيحين: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» الحديث. وقال تعالى في كتابه العزيز: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قيل في تفسير قوله تعالى: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} ما روى أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب في قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} قال: كان في علمه تعالى يوم أقروا له بالميثاق، أي: فما كانوا ليؤمنوا لعلم الله منهم ذلك، وكذا قال الربيع بن أنس، واختاره ابن جرير.
وقال السدي: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} قال: ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرها.
وقال مجاهد في قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} هذا كقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]. اهـ.

.قال أبو السعود:

{تِلْكَ القرى}.
جملةٌ مستأنفةٌ جاريةٌ مجرى الفذلكةِ لما قبلها من القِصص منبئةٌ عن غاية غَوايةِ الأممِ المذكورة وتماديهم فيها بعد ما أتتهم الرسلُ بالمعجزات الباهرة، وتلك إشارةٌ إلى قرى الأمم المُهلَكة على أن اللامَ للعهد وهو مبتدأٌ وقوله تعالى: {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا} خبرُه، وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاءِ القصة بعد، ومِنْ للتبعيض، أي بعضُ أخبارها التي فيها عظةٌ وتذكيرٌ.
وقيل: تلك مبتدأ والقرى خبرُه وما بعده حالٌ أو خبرٌ بعد خبرٍ عند من يجوز كون الخبر الثاني جملةً كما في قوله تعالى: {فَإِذَا هي حَيَّةٌ تسعى} وتصديرُ الكلام بذكر القرى وإضافةُ الأنباء إليها مع أن المقصوصَ أنباءُ أهلِها والمقصودُ بيانُ أحوالهم حسبما يُعرب عنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} لما أن حكايةَ هلاكِهم بالمرة على وجه الاستئصالِ بحيث يشمل أماكنَهم أيضًا بالخسف بها والرجفةِ وبقائِها خاويةً معطلةً أهولُ وأفظعُ. والباء في قوله تعالى: {بالبينات} متعلقةٌ إما بالفعل المذكور على أنها للتعدية وإما بمحذوف وقع حالًا من فاعله أي ملتبسين بالبينات لكن لا بأن يأتيَ كلُّ رسولٍ ببينة واحدة بل ببينات كثيرة خاصةٍ به معينةٍ حسبَ اقتضاءِ الحكمة، فإن مراعاة انقسامِ الآحاد إنما هي فيما بين الرسل وضميرِ الأممِ، والجملةُ مستأنفةٌ مبينةٌ لكمال عُتوِّهم وعنادِهم أي وبالله لقد جاء كلَّ أمةٍ من تلك الأممِ المُهلَكة رسولُهم الخاصُّ بهم بالمعجزات البيّنةِ المتكثرة المتواردةِ عليهم الواضحةِ الدِلالةِ على صحة رسالتِه الموجبةِ للإيمان حتمًا، وقوله تعالى: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} بيانٌ لاستمرار عدمِ إيمانِهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرارِ إيمانِهم، وترتيبُ حالتِهم هذه على مجيء الرسلِ بالبينات بالفاء لما أن الاستمرارَ على فعل من الأفعال بعد ورودِ ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمرارًا على فعل من الأفعال بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان عليه في الحقيقة لكنه بحسب العنوانِ فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادثٌ نحوُ وعظتُه فلم ينزجِرْ ودعوتُه فلم يُجب، واللامُ لتأكيد النفي أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوامِ في وقت من الأوقات أن يؤمنوا بكل، وكان ذلك ممتنعًا منهم إلى أنْ لَقوُا ما لقوُا لغاية عتوِّهم وشدةِ شكيمتِهم في الكفر والطغيانِ، ثم إن كان المحكيُ عنهم آخرَ حالِ كلِّ قومغ منهم فالمرادُ بعدم إيمانِهم المذكور هاهنا إصرارُهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه بقوله تعالى: {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} تكذيبُهم من لدن مجيءِ الرسل إلى وقت الإصرارِ والعناد، وإنما لم يُجعل ذلك مقصودًا بالذات كالأول بل جُعل صلةً للموصول إيذانًا بأنه بيّنٌ بنفسه، وإنما المحتاجُ إلى البيان عدمُ إيمانِهم بعد تواترِ البينات الظاهرةِ وتظاهُر المعجزاتِ الباهرةِ التي كانت تَضْطرُّهم إلى القَبول لو كانوا من أصحاب العقولِ، والموصولُ الذي تعلق به الإيمانُ والتكذيبُ سلبًا وإيجابًا عبارةٌ عن جميع الشرائعِ التي جاء بها كلُّ رسولٍ أصولِها وفروعِها، وإن كان المحكيُّ جميعَ أحوالِ كل قوم منهم فالمرادُ بما ذكر أولًا كفرُهم المستمرُّ من حين مجيءِ الرسل الخ، وبما أشير إليه آخِرًا تكذيبُهم قبل مجيئِهم فلابد من جعل الموصولِ المذكورِ عبارةً عن أصول الشرائعِ التي أجمعت عليها الرسلُ قاطبةً ودعَوا أُمَمهم إليها آثِرَ ذي أثيرٍ لاستحالة تبدّلِها وتغيّرِها، مثلُ ملةِ التوحيد ولوازمِها، ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيءِ رسلهم أنهم ما كانوا في زمن الجاهليةِ بحيث لم يسمعوا كلمةَ التوحيد قط بل كانت كلُّ أمةٍ من أولئك الأمم يتسامعون بها من بقايا مَنْ قبلهم فيكذّبونها، ثم كانت حالتُهم بعد مجيءِ رسلِهم كحالتهم قبل ذلك كأن لم يُبعثْ إليهم أحدٌ، وتخصيصُ التكذيب وعدمُ الإيمان بما ذُكر من الأصول لظهور حالِ الباقي بدِلالة النصِّ، فإنهم حين لم يؤمنوا بما أجمعت عليه كافةُ الرسلِ فلأَنْ لا يؤمنوا بما تفرَّد به بعضُهم أولى، وعدمُ جعلِ التكذيبِ مقصودًا بالذات لما أن ما عليه يدور فلكُ العذابِ والعقابِ هو التكذيبُ الواقعُ بعد الدعوةِ حسبما يعرب عنه قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} وإنما ذُكر ما وقع قبلها بيانًا لعراقتهم في الكفر والتكذيب، وعلى كلا التقديرين فالضمائرُ الثلاثة متوافقةٌ في المرجِع، وقيل: ضميرُ كذبوا راجعٌ إلى أسلافهم، والمعنى فما كان الأبناءُ ليؤمنوا بما كذب به الآباءُ، ولا يخفى ما فيه من التعسف، وقيل: المرادُ ما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد إهلاكِهم ورددناهم إلى دار التكليفِ بما كذبوا من قبلُ كقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} وقي: الباء للسببية وما مصدريةٌ أي بسبب تعوُّدِهم تكذيبَ الحقِّ وتمرّنِهم عليه قبل بعثةِ الرسلِ، ولا يرِدُ عليه هاهنا ما ورد في سورة يونُسَ من مخالفة الجمهورِ بجعل ما المصدريةِ من قبيل الأسماء كما هو رأيُ الأخفشِ وابنِ السرّاج ليرجِعَ إليه الضميرُ في به.
{كذلك} أي مثلَ ذلك الطبعِ الشديدِ المُحكَم {يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} أي من المذكورين وغيرهم فلا يكاد يؤثر فيها الآياتُ والنذرُ، وفيه تحذير للسامعين، وإظهارُ الاسم الجليلِ بطريق الالتفاتِ لتربية المهابة وإدخالِ الروعة. اهـ.

.قال الألوسي:

{تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا}.
جملة مستأنفة جارية مجرى الفذلكة مما قبلها منبئة عن غاية غواية الأمم المذكورة وتلك إشارة إلى قرى الأمم المحكية من قوم نوح وعاد وثمود وأضرابهم، واللام للعهد وجوز أن تكون للجنس، وهو مبتدأ والقرى صفته والجملة بعده خبر.
وجوز الزمخشري أن تكون تلك مبتدأ، والقرى خبر، والجملة خبر بعد خبر على رأي من يرى جواز كون الخبر الثاني جملة، وأن تكون الجملة حالا، وإفادة الكلام بالتقييد بها، واعترضه في التقريب بأنه جعل شرط الإفادة التقييد بالحال وعلى تقدير كون ذلك خبرًا بعد خبر ينتفي الشرط إلا أن يريد تلك القرى المعلومة حالها أو صفتها على أن اللام للعهد لكنه يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال انتهى، وفيه أن حديث الاستغناء ممنوع فإن المعنى كما في الكشف على التقديرين مختلف لأنه إذا جعل حالا يكون المقصود تقييده بالحال كما ذكره الزجاج في نحو هذا زيد قائمًا إذا جعل قيدًا للخبر إن الكلام إنما يكون مع من يعلم أنه زيد والاجاء الإحالة لأنه يكون زيد قائمًا كان أولا، وإذا جعل خبرًا بعد خبر فتلك القرى على أسلوب {ذَلِكَ الكِتَاب} [البقرة: 2] على أحد الوجوه و{نَقْصٍ} خبر ثان تفخيمًا على تفخيم حيث نبه على أن لها قصصًا وأحوالًا أخرى مطوية.
وقال الطيبي: إن الحال لما كانت فضلة كان الاشكال قائمًا في عدم إفادة الخبر فأجيب بأنها ليست فضلة من كل وجه وأما الخبر فلا عجب من كونه كالجزء من الأول كما في قولك هذا حلو حامض، وهذا بمنزلته، وفيه أن عد ما نحن فيه من ذلك القبيل حامض ومستغنى عنه بالحلو، ومثله بل أدهى وأمر الجواب بأنه لما اشترك الحلوان في ذات المبتدأ كفى إفادة أحدهما وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاء القصة بعد و{مِنْ} للتبعيض أي بعض أخبارها التي فيها عظة وتذكير، وتصدير الكلام بذكر القرى وإضافة الأنباء أي الأخبار العظيمة الشأن إليها مع أن المقصود أنباء أهلها وبيان أحوالهم حسبما يؤذن به قوله سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} لما ذكره سيخ الإسلام من أن حكاية هلاكهم بالمرة على وجه الاستئصال بحيث يشمل أماكنهم أيضًا بالخسف بها والرجفة وبقائها خاوية معطلة أهول وأفظع، والباء في قوله تعالى: {بالبينات} متعلقة أما بالفعل المذكور على أنها للتعدية، وإما بمحذوف وقع حالا من فاعله أي متلبسين بالبينات على معنى أن رسول كل أمة من الأمم المهلكة الخاص بهم جاءهم بالمعجزات البينة الجمة لا أن كل رسول جاء ببينة واحدة، وما ذكروه من أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد لا يقتضي كما قال المولى المدقق أبو القاسم السمرقندي في تعليقاته على المطول أن يلزم في كل مقابلة مقارنة الواحد للواحد لأن انقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز أن يكون على السواء يجوز أن يكون على التفاوت، مثلا إذا قيل: باع القوم دوابهم يفهم أن كلا منهم باع ماله من دابة، ويجوز أن تتعدد دابة البعض، ولهذا قبل في قوله سبحانه: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] إن غسل يدي كل شخص ثابت بالكتاب والمقام هنا يقتضي ما ذكرناه فإن الجملة مستأنفة مبينة لكمال عتوهم وعنادهم، وقول عز شأنه: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرار إيمانهم، ونظير ذلك {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، وترتيب حالهم هذه على مجيء الرسل بالبينات بالفاء لما أن الاستمرار على فعل بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه يعد بحسب العنوان فعلا جديدًا وصنعًا حادثًا كما في وعظته فلم ينزجر ودعوته فلم يجب، واللام لتأكيد النفي أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام في وقت من الأوقات ليؤمنوا بل كان ذلك ممتنعًا منهم إلى أن لقوا ما لقوا لغاية عتوهم وشدة شكيمتهم في الكفر والطغيان ثم إن كان المحكى آخر حال كل قوم منهم فالمراد بعدم إيمانهم هو إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه بقوله تعالى: {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} تكذيبهم من لدن مجيء الرسل عليهم السلام إلى وقت الإصرار والعناد، وهذا معنى كلام الزجاج فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية تلك المعجزات بما كذبوا قبل رؤيتها، يعني أول ما جاؤوهم فاجأوهم بالتكذيب فأتوا بالمعجزات فأصروا على التكذيب وإلى هذا ذهب الحسن أيضًا، وإنما لم يجعل ذلك مقصودًا بالذات كالأول بل جعل صلة للموصول المحذوف عائده أي الذي كذبوه إيذانًا بأنه بين في نفسه، وإنما المحتاج إلى البيان عدم إيمانهم بعد تواتر البينات الباهرة وتظاهر المعجزات الظاهرة التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من ذوي العقول، والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب إيجابًا وسلبًا عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها وإن كان المحكى جميع أحوال كل قوم منهم فالمراد على ما قيل بما ذكر أولا كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى آخر أمرهم وبما أشير إليه آخرًا تكذيبهم قبل مجيئهم فلابد من جعل الموصول عبارة عن أصول الشرائع التي لا تقبل التبدل والتغير واجتمعت الرسل قاطبة عليها ودعوا الأمم إليها كلمة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء الرسل أنهم كانوا يسمعونها من بقايا من قبلهم فيكذبونها لا أن العقل يرشد إليها ويحكم بها ويخالفونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل إليهم كحالهم قبل كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فإنهم حين لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه كافة الرسل فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى، وعدم جعل هذا التكذيب مقصودًا بالذات لما أنه ليس مدار العذاب بل مداره التكذيب بعد البعثة كما يفصح عنه قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وإنما ذكر ما وقع قبلها بيانًا لعراقتهم في الكفر والتكذيب، وقيل: المراد بما أشير إليه آخرا تكذيبهم الذي أسروه يوم الميثاق، وروي ذلك عن أبي بن كعب. والربيع. والسدى. ومقاتل. واختاره الطبري.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن مجاهد أن الآية على حد قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] فالمعنى ما كانوا لو أهلكناهم ثم أحييناهم ليؤمنوا بما كذبوا قبل إهلاكهم، وعلى هذا فالمراد بالموصول جميع الشرائع أصولها وفروعها وفيه من المبالغة في إصرارهم وعتوهم ما لا يخفى إلا أنه في غاية الخفاء، وأيا ما كان فالضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع، وقيل ضمير {كَذَّبُواْ} راجع إلى أسلافهم، والمعنى فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذب به الآباء، ولا يخفى ما فيه من التعسف، وذهب الأخفش إلى أن الباء سببية وما مصدرية والمعنى عليه كما قيل: فما كانوا ليؤمنوا الآن أي عند مجيء الرسل لما سبق منهم من التكذيب الذي ألفوه وتمرنوا عليه قبل مجيئهم أو لم يؤمنوا قط واستمروا على تكذيبهم لما حصل منهم من التكذيب حين مجيء الرسل.
{كذلك} أي مثل ذلك الطبع الشديد المحكم {يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} أي قلوبهم فوضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن الطبع بسبب الكفر وإلى هذا يشير كلام الزجاج وصرح به بعضهم، ويجوز ولعله الأولى أن يراد بالكفافرين ما يشمل المذكورين وغيرهم وفي ذلك من تحذير السامعين ما لا يخفى، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وإدخال الروعة. اهـ.